فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال عبد الكريم الخطيب:

قوله تعالى: {لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ}.
أي لو أراد اللّه سبحانه أن يتخذ له ولدا- كما يزعم هؤلاء الضالون- لاختاره هو سبحانه، ولخلقه على ما يشاء، لا أن يختاره له هؤلاء الضالون، كما يقول سبحانه عنهم: {وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (100: الأنعام).
وقوله تعالى: {سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ} تنزيه للّه عن أن يكون له ولد.. فهو سبحانه {الواحد} الذي لا شريك له.. والولد شريك للوالد، وهو سبحانه {القهار} أي القوى الذي لا يغلب.. فليس به إلى الولد حاجة، مما يبغيه الوالدون من الأولاد.
قوله تعالى: {خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ}.
ذلك هو بعض سلطان اللّه، وتلك هي بعض قدرته.. فالسموات والأرض صنعة يده.. وبعض خلقه.. وقد خلقهما سبحانه بالحق، الذي هو صفته.
وقوله تعالى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ}. يشير إلى أمور:
أولها: أن النهار والليل يكوّر كل منهما على الآخر، في حركة دائبة.
حيث لا يكون نهار إلا كور عليه الليل، ولا يكون ليل إلا كور عليه النهار.
وثانيهما: أن التكوير يعنى الحجب والتغطية من الأعلى للأسفل، إذ أن أصله من تكوير العمامة على الرأس.. يقال كر العمامة، وكورها، أي لفها على رأسه، حتى صارت مثل الكرة.
وثالثها: أن هذه الصورة من التكوير، تشير إلى كروية الأرض، وإلى أن الليل والنهار يتحركان فوق كرة، أشبه بالعمامة التي تعلو الرأس.
ورابعها: أن لفظ {يكور} يشير إلى أن الأرض متحركة، وأن هذا التكوير الذي يجرى على الكرة، إنما يقع حالا بعد حال، ووقتا بعد وقت.
وخامسها: تقديم تكوير الليل على النهار، إشارة إلى اتجاه حركة الأرض، بعد لإشارة إلى شكلها الكروي وإلى حركتها- فإن هذه الحركة من الغرب إلى الشرق، حيث يكون النهار أولا، ثم يتلوه الليل فيتكور عليه، ثم يعقبه النهار، فيعلوه متكورا عليه كذلك.. وهكذا.
قوله تعالى: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى}.
أي وأجرى الشمس والقمر، وسخرهما بقدرته، وأقامهما على نظام محكم لا يخرجان عنه.. فلكلّ فلكه الذي يجرى فيه.. لا يتعداه.
وقوله تعالى: {أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ}. إشارة إلى عزّة اللّه وقوته، وأنه القهّار الذي يخضع كل موجود لسلطانه.. ومن كان هذا شأنه فإن نسبة الولد إليه ضلال مبين، وسفه جهول.. لأن الولد إنما يسدّ نقصا، ويشبع رغبة، ويرضى عاطفة.. وتعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
واللّه سبحانه وتعالى مع عزّته وقوته، فهو غفار للسيئات، غفور للمذنبين، إذا هم تابوا إلى اللّه، واستغفروا لذنوبهم! {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} (135 آل عمران). اهـ.

.قال ابن عاشور:

{لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} موقع هذه الآية موقع الاحتجاج على أن المشركين كاذبون وكفّارون في اتخاذهم أولياء من دون الله، وفي قولهم: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله} [الزمر: 3] وأن الله حرمهم الهدى وذلك ما تضمنه قوله قبله: {إن الله لا يهدي من هو كاذبٌ كفَّارٌ} [الزمر: 3]، فقصد إبطال شركهم بإبطال أقواه وهو عدّهم في جملة شركائهم شركاءَ زعموا لهم بنوّة لله تعالى، حيث قالوا: {اتخذ الله ولدًا} [البقرة: 116] فإن المشركين يزعمون اللاتَ والعزى ومناةَ بناتتِ الله قال تعالى: {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى} [النجم: 19 21].
قال في الكشاف هنالك: كانوا يقولون: إن الملائكة وهذه الأصنام يعني هذه الثلاثة بناتُ الله وذكر البغوي عن الكلبي كان المشركون بمكة يقولون: الأصنام والملائكة بنات الله فخص الاعتقاد بأهل مكة، والظاهر أن ذلك لم يقولوه في غير اللات والعزّى ومناةَ، لأن أسماءها مؤنثة، وإلاّ فإن في أسماء كثير من أسماء أصنامهم ما هو مذكّر نحو ذي الخَلَصة، وذكر في الكشاف عند ذكر البسملة أنهم كانوا يقولون عند الشروع في أعمالهم: باسم اللات، باسم العزّى.
فالمقصود من هذه الآية إبطال إلهية أصنام المشركين على طريقة المذهب الكلامي.
واعلم أن هذه الآية والآيات بعدها اشتملت على حجج انفراد الله.
ومعنى الآية: لو كان الله متخذًا ولدًا لاختار من مخلوقاته ما يشاء اختياره، أي لاختار ما هو أجدر بالاختيار ولا يختار لبنوته حجارة كما زعمتم لأن شأن الاختيار أن يتعلق بالأحسن من الأشياء المختار منها فبطل أن تكون اللاتُ والعُزّى ومناةُ بناتتٍ لله تعالى، وإذا بطل ذلك عنها بطل عن سائر الأصنام بحكم المساواة أو الأحرى، فتكون لو هنا هي الملقبة لو الصهيبية، أي التي شرطها مفروض فرضًا على أقصى احتمال وهي التي يُمثلون لها بالمثل المشهور: نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه، فكان هذا إبطالًا لما تضمنه قوله: {والذين اتَّخذوا من دونه إولياء ما نعبدهم} إلى قوله: {كَفَّار} [الزمر: 3].
وليس هو إبطالًا لمقالة بعض العرب: إن الملائكة بنات الله، لأن ذلك لم يكن من عقيدة المشركين بمكة الذين وجه الخطاب إليهم، ولا إبطالًا لبنوة المسيح عند النصارى لأن ذلك غير معتقَد عند المشركين المخاطبين ولا شعور لهم به، وليس المقصود محاجّة النصارى ولم يتعرض القرآن المكي إلى محاجّة النصارى.
واعلم أنه بني الدليل على قاعدة استحالة الولد على الله تعالى إذ بُني القياس الشرطي على فرض اتخاذ الولد لا على فرض التولّد، فاقتضى أن المراد باتخاذ الولد التبنّي لأن إبطال التبنّي بهذا الاستدلال يستلزم إبطال تولد الابن بالأولى.
وعزز المقصود من ذكر فعل الاتخاذ بتعقيبه بفعل الاصطفاء على طريقة مجاراة الخصم المخطىء ليغير في مهواة خطئه، أي لو كان لأحد من الله نسبة بنوة لكانت تلك النسبة التبنِّيَ لا غير إذ لا تتعقل بنوة لله غير التبنّي ولو كان الله متبنِّيًا لاختار ما هو الأليق بالتبنّي من مخلوقاته دون الحجارة التي زعمتموها بنات لله.
وإذا بطلت بنوة تلك الأصنام الثلاثة المزعومة بطلت إلهية سائر الأصنام الأخرى التي اعترفوا بأنها في مرتبة دون مرتبة اللات والعزّى ومناة بطريق الأوْلى واتفاققِ الخصمين فقد اقتضى الكلام دليلين: طوي أحدهما وهو دليل استحالة الولد بالمعنى الحقيقي عن الله تعالى، وذكر دليل إبطال التبنّي لما لا يليق أن يتبناه الحكيم.
هذا وجه تفسير هذه الآية وبيان وقعها مما قبلها وبه تخرج عن نطاق الحيرة التي وقع فيها المفسرون فسلكوا مسالك تعسف في معناها ونظمها وموقعها، ولم يتم لأحد منهم وجه الملازمة بين شرط لو وجوابها، وسكت بعضهم عن تفسيرها.
فوقع في الكشاف ما يفيد أن المقصود نفي زعم المشركين بنوة الملائكة وجعل جواب لو محذوفًا وجعل المذكور في موضع الجواب إرشادًا إلى الاعتقاد الصحيح في الملائكة فقال: يعني لو أراد الله اتخاذ الولد لامتنع، ولم يصح لكونه أي ذلك الاتخاذ محالًا ولم يتأتَّ إلاّ أن يصطفي من خلقه بعضه ويختصهم ويقربهم كما يختص الرجل ولده وقد فعل ذلك بالملائكة فغرّكم اختصاصه إياهم فزعمتم أنهم أولاده جهلًا منكم بحقيقته المخالفة لِحقائق الأجسام والأعراض.
فجعل ما هو في الظاهر جواب لو مفيدًا معنى الاستدراك الذي يَعقُب المقدَّمَ والتاليَ غالبًا، فلذلك فسره بمرادفه وهو الاستثناء الذي هو من تأكيد الشيء بما يشبه ضده.
وللتفتزاني بحث يقتضي عدم استقامة تقرير الكشاف لدليل شرط لو وجوابه، واستظهر أن لو صهيبية تبعًا لتقرير ذكره صاحب الكشف.
وبعد فإن كلام صاحب الكشاف يجعل هذه الآية منقطعة عن الآيات التي قبلها، فيجعلُها بمنزلة غرض مستأنف مع أن نظم الآية نظم الاحتجاج لا نظم الإِفادة، فكان محمل الكشاف فيها بعيدًا.
ومع قطع النظر عن هذا فإن في تقرير الملازمة في الاستدلال خفاء وتعسفًا كما أشار إليه الشَقَّار في كتابه التقريب مختصرِ الكشاف.
وقال ابن عطية: معنى اتخاذ الولد اتخاذ التشريف والتبنّي وعلى هذا يستقيم قوله: {لاصطفى} وأما الاتخاذ المعهود في الشاهد يعني اتخاذ النسل فمستحيل أن يتوهم في جهة الله ولا يستقيم عليه قوله: {لاصطفى}.
ومما يدل على أن معنى أن يتخذ الاصطفاء والتبني قوله: {ممَّا يَخْلُقُ} أي من محداثته. اهـ. وتبعه عليه الفخر.
وبنى عليه صاحب التقريب فقال عقب تعقب كلام الكشاف والأولى ما قيل: لو أراد أن يتخذ ولدًا كما زعمتم لاختار الأفضل أي الذكور لا الأنقص وهنّ الإِناث.
وقال التفتازاني في شرح الكشاف: هذا معنى الآية بحسب الظاهر، وذكر أن صاحب الكشاف لم يسلكه للوجه الذي ذكره التفتازاني هناك.
والذي سلكه ابن عطية وإن كان أقرب وأوضح من مسلك الكشاف في تقرير الدليل لكنه يشاركه في أنه لا يصل الآية بالآيات التي قبلها وبنبغي أن لا تقطع بينها الأواصر، وكم ترك الأول للآخر.
وجملة {سبحانه} تنزيه له عما نسبوه إليه من الشركاء بعد أن أبطله بالدليل الامتناعي عودًا إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين الذي فارقه من قوله: {فاعبد الله مخلصًا له الدين} [الزمر: 2].
وجملة {هو الله الواحد القهَّارُ} دليل للتزيه المستفاد من {سبحانه}.
فجملة {هُوَ الله} تمهيد للوصفين، وذِكر اسمه العلم لإِحضاره في الأذهان بالاسم المختص به فلذلك لم يقل: هو الواحد القهّار كما قال بعدُ: {ألا هوَ العزيزُ الغفَّارُ} [الزمر: 5].
وإثبات الوحدانية له يبطل الشريك في الإلهية على تفاوت مراتبه، وإثبات {القَهَّارُ} يبطل ما زعموه من أن أولياءهم تقربهم إلى الله زلفى وتشفع لهم.
والقهر: الغلبة، أي هو الشديد الغلبة لكل شيء لا يغلبه شيء ولا يصرفه عن إرادته.
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)} هذه الجملة بيان لجملة {هو الله الواحد القهار} [الزمر: 4] فإن خلق هذه العوالم والتصرف فيها على شدتها وعظمتها يبين معنى الوحدانية ومعنى القهّارية، فتكون جملة {هو الله الواحد القهار} ذات اتصالين: اتصالٍ بجملة {لو أراد الله أن يتَّخِذَ ولدًا} [الزمر: 4] كاتصال التذييل، واتصالٍ بجملة {خلق السماوات والأرض بالحق} اتصالَ التمهيد.
وقد انتقل من الاستدلال باقتضاء حقيقة الإلهية نفي الشريك إلى الاستدلال بخلق السماوات والأرض على أنه المنفرد بالخلق إذ لا يستطيع شركاؤهم خلق العوالم.
والباء في {بالحقِّ} للملابسة، أي خلقها خلقًا ملابسًا للحق وهو هنا ضد العبث، أي خلقهما خلقًا ملابسًا للحكمة والصواب والنفع لا يشوب خلقهما عبث ولا اختلال قال تعالى: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق} [الدخان: 38 39].
وجملة {يُكَوّرُ الَّيْلَ} بيان ثان وهو كتعداد الجمل في مقام الاستدلال أو الامتنان.
وأوثر المضارع في هذه الجملة للدلالة على تجدد ذلك وتكرره، أو لاستحضار حالة التكوير تبعًا لاستحضار آثارها فإن حالة تكوير الله الليل على النهار غير مشاهدة وإنما المشاهد أثرها وتجدد الأثر يدل على تجدد التأثير.
والتكوير حقيقته: اللف والليُّ، يقال: كَوَّر العمامةَ على رأسه إذا لواها ولفَّها، ومثّلت به هنا هيئة غشيان الليل على النهار في جزء من سطح الأرض وعكسُ ذلك على التعاقب بهيئة كَوْر العمامة، إذ تغشى الليَّةُ الليَّةَ التي قبلها.
وهو تمثيل بديع قابل للتجزئة بأن تشبه الأرض بالرأس، ويشبه تعاور الليل والنهار عليها بلف طيات العمامة، ومما يزيده إبداعًا إيثار مادة التكوير الذي هو معجزة علمية من معجزات القرآن المشار إليها في المقدمة الرابعة والموضحة في المقدمة العاشرة، فإن مادة التكوير جَائية من اسم الكُرة، وهي الجسم المستدير من جميع جهاته على التساوي، والأرض كروية الشكل في الواقع وذلك كان يجهله العرب وجمهور البشر يومئذٍ فأومأ القرآن إليه بوصف العَرضين اللذين يعتريان الأرض على التعاقب وهما النور والظلمة، أو الليل والنهار، إذ جعل تعاورهما تكويرًا لأن عَرَض الكرة يكون كرويًا تبعًا لذاتها، فلما كان سياق هذه الآية للاستدلال على الإلهية الحقِّ بإنشاء السماوات والأرض اختير للاستدلال على ما يَتبع ذلك الإِنشاء من خلق العَرضين العظيمين للأرض مادةُ التكوير دون غيرها من نحو الغشيان الذي عبر به في قوله تعالى: {يغشي الليل النهار} في سورة [الأعراف: 54]، لأن تلك الآية مسوقة للدلالة على سعة التصرف في المخلوقات لأن أولها {إن ربكم اللَّه الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش} [الأعراف: 54] فكان تصوير ذلك بإغشاء الليل والنهار خاصة لأنه دل على قوة التمكن من تغييره أعراض مخلوقاته، ولذلك اقتصر على تغيير أعظم عَرَض وهو النور بتسليط الظلمة عليه، لتكون هاته الآية لمن يأتي من المسلمين الذين يطلعون على علم الهيئة فتكون معجزة عندهم.
وعطفُ جملة {ويُكورُ النهار على الليل} هو من عطف الجزء المقصود من الخبر كقوله: {ثيبات وأبكارًا} [التحريم: 5].
وتسخير الشمس والقمر هو تذليلهما للعمل على ما جعل الله لهما من نظام السير سير المتبوع والتابع، وقد تقدم في سورة الأعراف وغيرها.
وعطفت جملة {وسخَّر الشمس والقمرَ} على جملة {يُكورُ الليل على النهارِ} لأن ذلك التسخير مناسب لتكوير الليل على النهار وعكسه فإن ذلك التكوير من آثار ذلك التسخير فتلك المناسبة اقتضت عطف الجملة التي تضمنته على الجملة التي قبلها.
وجملة {كلٌّ يجري لأجَلٍ مسمى} في موقع بدل اشتمال من جملة {سَخر الشمس والقمرَ} وذلك أوضح أحوال التسخير.
وتنوين كلّ للعِوض، أي كل واحد، والجري: السير السريع، واللام للعلة.
والأجل هو أجل فنائهما فإن جريهما لما كان فيه تقريب فنائهما جعل جريهما كأنه لأجل الأجل أي لأجل ما يطلبه ويقتضيه أجل البقاء، وذلك كقوله تعالى: {والشمس تجري لمستقرٍ لها} [يس: 38]، فالتنكير في {أجل} للإِفراد.
ويجوز أن يكون المراد بالأجل أجل حياة الناس الذي ينتهي بانتهاء الأعمار المختلفة.
وليس العمر إلا أوقاتًا محدودة وأنفاسًا معدودة.
وجري الشمس والقمر تُحسب به تلك الأوقات والأنفاس، فصار جريهما كأنه لأجل.
قال أسقف نجران:
مَنَع البقاءَ تقلُّبُ الشمس ** وطلوعها من حيث لا تُمسي

وأقوالهم في هذا المعنى كثيرة.
فالتنكير في {أجلٍ} للنوعية الذي هو في معنى لآجالٍ مُسماة.
ولعل تعقيبه بوصف {الغَفَّارُ} يرجح هذا المحمل كما سيأتي.
والمسمّى: المجعول له وَسم، أي ما به يُعين وهو ما عيّنه الله لأن يبلغ إليه.
وقد جاء في آيات أخرى {كل يجري إلى أجل} [لقمان: 29] بحرف انتهاء الغاية، ولامُ العلة وحرفُ الغاية متقاربان في المعنى الأصلي وأحسب أن اختلاف التعبير بهما مجرد تفنن في الكلام.
{مُّسَمًّى أَلا هُوَ العزيز}.
استئناف ابتدائي هو في معنى الوعيد والوعد، فإن وصف {العزيزُ} كناية عن أنه يفعل ما يشاء لا غالب له فلا تُجدي المشركين عبادةُ أوليائهم، ووصفَ الغَفَّارُ مؤذن باستدعائهم إلى التوبة باتباع الإِسلام.
وفي وصف الغَفَّارُ مناسبة لذكر الأجل لأن المغفرة يظهر أثرها بعد البعث الذي يكون بعد الموت وانتهاء الأجل تحريضًا على البدار بالتوبة قبل الموت حين يفوت التدارك.
وفي افتتاح الجملة بحرف التنبيه إيذان بأهمية مدلولها الصريح والكنائي. اهـ.